في هذه المقالة وضحنا في البداية تعريف القانون، وتعريف الحق، ثم القينا الضوء على أركان الحق وهما أشخاص الحق ومحل الحق، ثم جعلنا تلك المقالة تدور حول الركن الثاني للحق وهو محل الحق؛ ففي البداية وضحنا تعريف محل الحق، ثم وضحنا محل الحق الشخصي (الأعمال)، ومحل الحق العيني (الأشياء) بالتفصيل.
تعريف القانون
درج الفقهاء على تعريف القانون بأنه: “مجموعة القواعد العامة المجردة التي تنظم سلوك الأفراد في المجتمع، وتقترن بجزاء مادي يكفل احترامها”؛ والقانون وفقا لهذا التعريف هو القانون بمعناه العام، وهذا المعنى هو المستفاد من لفظ القانون عند إطلاقه.
غير أن اصطلاح القانون قد لا ينصرف إلى هذا المعنى العام، فقد يقصد به مجموعة القواعد القانونية التي تضعها السلطة التشريعية لتنظيم مسألة معينة، فيقال مثلاً قانون المحاماة أو قانون تنظيم الجامعات؛ وفي هذه الحالة ينصرف اصطلاح القانون إلى معنى أضيق من المعنى السابق، حيث يقصد به التشريع فقط، وللعلم التشريع ليس هو القانون بمعناه الواسع ولكنه أحد مصادر القانون.
مقالة ذات صلة: القانون: تعريفه، خصائصه، أهميته، أقسامه، مصادره، أقسامه
تعريف الحق
الحق هو استئثار شخص بميزة معينة استئثارًا يحميه القانون؛ فالحق استئثار، أي أن الميزة تنسب لصاحب الحق، وتثبت له دون غيره؛ والميزة التي يستأثر بها صاحب الحق هي عبارة عن سلطات معينة يمارسها بقصد إشباع مصلحة معينة، فالميزة هنا تتضمن وسيلة وغاية، ولا يقتصر معناها على السلطة وحدها أو المصلحة بمفردها، فمالك الأرض يستأثر بميزة معينة هي سلطاته في استعمال الشيء واستغلاله والتصرف فيه بغرض تحقيق مصلحة معينة له من الاستعمال أو الاستغلال أو التصرف.
والميزة، سواء باعتبارها وسيلة أو غاية، يجب أن تكون مشروعة، وإن كنا لم نورد ذلك في التعريف، فإن ذلك مفهوم ضمنا، وبحكم الضرورة؛ لأن صاحب الحق إذا استخدم سلطاته لتحقيق مصلحة غير مشروعة فإن القانون لن يحمي له استئثاره بميزته، لأننا نكون قد خرجنا عن نطاق الحق. والقانون يحمي استئثار الشخص بالميزة، وهو إذ يحمي هذا الاستئثار، فإن ذلك يفترض بالضرورة أنه يقره لأنه لا يتصور أن يحمي القانون ميزة معينة لشخص وهو لا يقرها.
والنتيجة الطبيعية للاستئثار بالميزة هي وجوب احترام الغير للحق، سواء في صورة واجب سلبي عام يقع على عاتق الكافة، باحترام الحق أو في صورة واجب خاص يقع على عاتق المدين بالوفاء بدينه لصاحب الحق الشخصي؛ والتزام الغير باحترام الحق مصدره القانون الذي يحمي الاستئثار بالميزة، فلم يكن من المتصور أن يقر القانون استئثار شخص بميزة ثم يتركه دون حماية ضد اعتداء الغير.
مقالة ذات صلة: الحق: تعريفه، أنواعه، أركانه، مصادره، أشخاصه، محله
أركان الحق
ذكرنا أن الحق هو استئثار شخص بميزة معينة استئثاراً يحميه القانون، ويظهر من هذا التعريف أن الحق يفترض أولا شخصاً معيناً يٌثبت له الاستئثار، ومن ثم التسلط والاقتضاء، وعلى ذلك فالركن الأول في الحق هو الأشخاص أصحاب الحقوق ؛ ثم إن الاستئثار ينصب على قيم أو أشياء معينة هي محل الحق (موضوع هذه المقالة)، ومحل الحق إما أن يكون شيئا كما في الحقوق العينية، وإما أن يكون عملأ أو امتناع عن عمل، كما في الحق الشخصي، وبالتالي فالأشياء أو الأعمال هي الركن الثاني في الحق.
أما الحماية القانونية للحق، فهي وإن كانت ضرورية له، فهي ليست ركنا فيه، ولقد تناولنا الحماية القانونية عند تناولنا استعمال الحق، بهذا يتحدد موضوع أركان الحق بمسألتين هما: أشخاص الحق ومحل الحق (موضوع هذه المقالة) .
تعريف محل الحق
محل الحق هو الركن الثاني من أركان الحق، بعد الركن الأول الذي هو أصحاب الحق (الشخص الطبيعي والشخص المعنوي)، والمقصود بمحل الحق هو الموضوع الذي ينصب عليه الحق، فمحل الحق إما أن يكون شيئا كما في الحقوق العينية، وإما أن يكون عملاً أو امتناع عن عمل، كما في الحق الشخصي؛ ومحل الحق الشخصي إما أن يكون عملا أو امتناعا عن عمل، فالتزام مقاول ببناء عمارة هو التزام بعمل، وهذا العمل يكون في الوقت ذاته محل الحق الشخصي لصاحب العمارة، والتزام تاجر بعدم منافسة تاجر في تجارة معينة في مدينة معينة هو التزام بامتناع عن عمل؛ أما محل الحق العيني فهو شيء معين بالذات تقع عليه سلطات مباشرة لصاحب الحق، وبالنسبة للحق الذهني أو المعنوي، فإننا قد تكلمنا عن محله عند الكلام عن هذا الحق وعند عرضنا لأحد صوره، وهو حق المؤلف.
وسوف نتكلم فى هذه المقالة عن محل الحق الشخصي، وهو العمل، ومحل الحق العيني وهو الشيء.
الأعمال (محل الحق الشخصي)
تكون الأعمال محل الحق الشخصي، ويشترط في هذا المحل عدة شروط:
- أن يكون موجودا أو ممكنا.
- أن يكون معينا أو قابلاً للتعيين.
- أن يكون قابلا للتعامل فيه.
مقالة ذات صلة: الحقوق العينية – الحقوق العينية الأصلية والتبعية – التعريف والأنواع
شروط محل الحق الشخصي
الشرط الأول: أن يكون المحل موجودا أو ممكنا
أ. إذا كان محل الحق الشخصي أو الالتزام هو نقل أو إنشاء حق عيني على شئ معين وجب أن يكون هذا الشيء موجودا، ومثال ذلك التزام البائع بنقل ملكية المبيع، فهذا الالتزام يعتبر دينا على البائع، ولكن إذا نظرنا إليه من ناحية المشتري نجده يسمى حقا شخصيا، فالمشتري له الحق في مطالبة البائع بنقل ملكية المبيع إليه؛ ولما كان نقل الملكية، وهو العمل المكون لمحل الحق الشخصي متعلقا بشيء معين هو العين المبيعة، فإنه يشترط في هذا الشيء أن يكون موجودا، فإذا قصد البائع والمشتري أن يقع الالتزام بنقل الملكية على شيء موجود، لكن تبين أن هذا الشيء لم يكن موجودا وقت العقد، بأن كان قد هلك من قبل التعاقد، فإن الالتزام يقع باطلاً، وبمعنى آخر لا ينشأ الحق الشخصي، ولكن إذا انصرفت نية المتعاقدين إلى التعامل في شيء سيوجد مستقبلا، وكان هذا داخلا في اعتبارهم، فإن الالتزام يقوم صحيحاً، ومثال ذلك بيع المحصولات قبل نضجها أو المنتجات الصناعية قبل تصنيعها.
وفي هذا تنص المادة ١٣١ مدني على أنه “1-يجوز أن يكون محل الالتزام شيئا مستقبلا”، ولكن إذا كانت القاعدة العامة هو جواز التعامل في الأشياء المستقبلة، أي التي لم توجد بعد، فانه استثناء على هذه القاعدة يحرم القانون التعامل في الأشياء المستقبلة في بعض الأحيان، ومثال ذلك التعامل في التركات المستقبلة، إذ تنص المادة ١٣١ على أن التعامل في تركة إنسان على قيد الحياة باطل ولو كان برضاه.
ب. أما إذا كان محل الحق الشخصي عملأ لا يتعلق بنقل أو إنشاء حق عيني، أو كان امتناعا عن عمل، فإنه يشترط فيه أن يكون ممكنا، فشرط الإمكان بالنسبة للعمل أو الامتناع عن العمل يقابل شرط الوجود بالنسبة للشيء الذي يتعلق به العمل عندما يكون العمل هو نقل أو إنشاء حق عيني؛ فاذا كان العمل أو الامتناع مستحيلاً فإن الالتزام يكون باطلاً ولا ينشأ الحق الشخصي، وفي هذا تنص المادة (١٣٢ مدني) على أنه “إذا كان محل الالتزام مستحيلاً في ذاته كان العقد باطلاً”، والعمل أو الامتناع عن العمل قد يكون مستحيلاً في ذاته، وهذا ما يسمى بالاستحالة المطلقة، ومثاله الالتزام بعبور المحيط سباحة، فالعمل هنا مستحيل في ذاته لا يستطيع أن يقوم به المدين ولا غير المدين، والاستحالة المطلقة هي التي تودي لبطلان الالتزام وتحول دون قيام الحق الشخصي.
أما الاستحالة النسبية فمعناها أن يكون العمل أو الامتناع مستحيلا على المدين نفسه، وانما يستطيع غيره من الناس أن يقوم به، ومثال ذلك أن يتعهد شخص برسم لوحة زيتية، بينما هو لا يدري من فن الرسم شيئا، فرسم اللوحة مستحيل نسبيا لأن عدم الإمكان مقصور على المدين، إنما يستطيع غير المدين ممن يجيدون الرسم أن يقوموا بهذا العمل؛ ففي حالة الاستحالة النسبية، ينشأ الالتزام، ويوجد الحق الشخصي، لكن مادام أن المدين عاجز عن القيام بتنفيذ الالتزام، فانه يلتزم بتعويض الدائن صاحب الحق الشخصي عن الأضرار التي أصابته من عدم التنفيذ.
الشرط الثاني: أن يكون المحل معينا أو قابلا للتعيين
يشترط أن يكون العمل أو الامتناع معيناً أو محدداً، فإذا التزم مقاول ببناء عمارة، يجب أن تكون العمارة محددة بأوصاف كافية، كعدد الطوابق وعدد الشقق ونوعية البناء ومساحته، ويكفي أن يكون العمل قابلا للتحديد إذا كانت الظروف تمكن من هذا التحديد، فمثلا التزام صاحب العمارة بدفع الثمن للمقاول يمكن تحديده على أساس تكلفة الوحدة، بالإضافة لربح المقاول.
وإذا كان محل الحق الشخصي هو نقل أو إنشاء حق عيني على شيء وجب أن يكون هذا الشيء معينا أو قابلا للتعيين، كالبائع الذي يلتزم بنقل ملكية منزل أو قطعة أرض إلى المشتري، ففي هذا المثال يجب تعيين المنزل أو قطعة الأرض بالأوصاف التي تمنع من اختلاطهما بغيرهما، كالموقع والمساحة والحدود وغير ذلك من الأوصاف، ولا يشترط التعيين صراحة ما دام أن هناك من الظروف ما يساعد على تعيين الشيء، فإذا التزم منتج بتوريد كمية من الأغذية اللازمة لمدرسة أو مستشفى، ولم يعين المقدار في العقد، فان محل الالتزام يكون قابلا للتعيين، إذ سيحدد مقدار ما يورده على أساس ما تحتاجه المدرسة أو المستشفى.
الشرط الثالث: أن يكون المحل قابلا للتعامل فيه
يجب أن يكون العمل أو الامتناع محل الحق الشخصي داخلا في دائرة التعامل أو بمعنى آخر جائزا التعامل فيه، فاذا كان محل الالتزام مخالفا للنظام العام والآداب، فانه يكون باطلا، ومثاله تأجير منزل للدعارة أو بيع الأسلحة بدون ترخيص أو الاتجار في المواد المخدرة.
الأشياء (محل الحق العيني)
التمييز بين الشيء والمال
الشيء – كما قلنا – هو محل الحق العيني، ويجب هنا قبل أن ندخل في تفاصيل الكلام عن الأشياء أن ننبه إلى ملاحظة هامة، وهي أنه في نظر القانون هناك فرق بين الشيء والمال، فالمال هو الحق المالي، أي الحق الذي يمكن تقدير محله بالنقود، وذلك على التفصيل الذي ذكرناه عند الكلام عن الحقوق المالية؛ أما الشيء فهو محل الحق العيني، فالشخص الذي له حق ملكية على منزل يكون له مال هو حق الملكية، وهذا الحق يمكن تقدير محله بالنقود، فنقول مثلا إن هذا الحق قيمته عشرة آلاف جنيه مثلا لأن قيمة محله وهو المنزل تساوي مبلغ العشرة آلاف جنيه، أما المنزل نفسه، فهو الشيء الذي يراد عليه حق الملكية.
تقسيمات الأشياء
تجري العادة على تقسيم الأشياء عدة تقسيمات، الغرض منها جمع الأشياء التي تخضع لقواعد قانونية واحدة في مجموعة واحدة، وبصدد كل تقسيم من هذه التقسيمات ينظر إلى الشيء من زاوية معينة، وعلى أساس هذه النظرة يقوم التقسيم؛ فمن حيث جواز التعامل فيها تنقسم الأشياء إلى أشياء داخلة في التعامل، وأشياء خارجة عنه، ومن حيث تكرار استعمالها تنقسم إلى أشياء قابلة للاستهلاك، وأشياء غير قابلة له؛ ومن حيث ثباتها وانتقالها تنقسم إلى أشياء عقارية وأشياء منقولة، ومن حيث تعيينها تنقسم الأشياء إلى أشياء قيمية وأشياء مثلية، وأخيرا تنقسم بحسب تخصيص منفعتها إلى أشياء عامة وأشياء خاصة.
أولاً:- الأشياء الداخلة في التعامل والأشياء الخارجة عنها
من الأشياء ما لا يمكن أن يكون محلاً للتعامل بين الناس ولا يصلح أن يكون محلاُ لحق عيني، وقد حدد القانون الأشياء الخارجة عن التعامل وما عداها من الأشياء يكون داخلاً في التعامل، وفي هذا الصدد تنص المادة ٨١ مدني على ما يأتي: “1- كل شيء غير خارج عن التعامل بطبيعته أو بحكم القانون يصح أن يكون محلأ للحقوق المالية. 2- والأشياء التي تخرج عن التعامل بطبيعتها هي التي لا يستطيع أحد أن يستأثر بحيازتها، وأما الخارجة بحكم القانون فهي التي لا يجيز القانون أن تكون محلاً للحقوق المالية”، ومن هذا النص نستطيع أن نتبين أن الشيء قد يكون خارجا عن التعامل بطبيعته، وقد يكون خارجا عن التعامل بحكم القانون:
- أ. فالشيء الخارج عن التعامل بطبيعته هو الشيء الذي لا يمكن لأحد أن يستأثر بحيازته، كأشعة الشمس والهواء ومياه المحيطات. مثل هذه الأشياء أتيحت بحكم طبيعتها للكافة، ويمكن لأي أحد من الناس الانتفاع بها؛ على أنه يلاحظ أن خروج هذه الأشياء عن التعامل كان سبب عدم إمكان الاستئثار بها، وعلى ذلك إذا أمكن لأحد أن يستأثر بجزء منها، فان هذا الجزء يصبح داخلاً في دائرة التعامل، ويصح أن يكون محلاً للحق العيني، فمثلا الهواء المضغوط في اسطوانات يصح أن يكون مملوكا ملكية فردية، وكذلك المياه التي تكون في مجرى خاص أو التي تجري عليها عمليات معينة بعد أخذها من المحيط لجعلها صالحة للشرب؛ ةفي كل هذه الحالات يصبح الشئ داخلا في التعامل، ويمكن أن يكون محلا للملكية الفردية.
- ب. أما الشيء الخارج عن التعامل بحكم القانون فهو شئ في الأصل يمكن الاستئثار بحيازته، أي أن طبيعته لا تتنافى مع دخوله في التعامل، ولكن القانون، لاعتبارات معينة يخرجه عن دائرة التعامل؛ والقانون يخرج الشئ عن دائرة التعامل إما لأن هذا الشئ قد خصص للنفع العام، كالطرقات العامة، والكباري، والمدارس الحكومية، والمستشفيات العامة، وبالتالي فإجازة التعامل فيه تحول دون تحقق هذا النفع العام، أو لأن التعامل فيه يخالف النظام العام والآداب، كتحريم التعامل في المواد المخدرة أو بالنقود المزيفة، على أن القانون قد يجيز استثناء التعامل في الأشياء التي حرم التعامل فيها، كقاعدة عامة، إذا كانت المصلحة العامة تقتضي ذلك في حالات خاصة، فمثلا يجيز القانون التعامل في المواد المخدرة للأغراض الطبية.
ثانياً:- الأشياء القابلة للاستهلاك والأشياء غير القابلة له
يقوم هذا التقسيم على أساس الأثر الذي يحدثه الاستعمال في الشئ، فالأشياء القابلة للاستهلاك هي التي ينحصر استعمالها بحسب ما أعدت له في استهلاكها أو إنفاقها (مادة ١/٨٤ مدني)، وذلك كالمأكولات المختلفة والوقود والنقود، أما الأشياء غير القابلة للاستهلاك فهي تلك التي لا يترتب على استعمالها لأول مرة هلاكها، بل تبقى طبيعتها كما هي.
فلكي نعرف ما إذا كان الشئ قابلا للاستهلاك أو غير قابل له، نبحث في أثر الاستعمال الأول لهذا الشئ على طبيعته، فاذا كان الشىء يهلك بمجرد الاستعمال، أو بعبارة أخرى باستعماله لأول مرة، يسمى قابلاً للاستهلاك، فالطعام مثلا لا يتصور أن يستعمل أكثر من مرة، فالبرتقالة أو التفاحة استعمالها لأول مرة يؤدي لهلاكها متى أكلها الإنسان هلكت، وهذا ما يسمى بالاستهلاك المادي، لأنه يغير من طبيعة الشيء المستهلك، وقد يكون الاستهلاك حكميا، كإنفاق النقود والبضاعة المعروضة في المحل، ويسمى حكميا لأن ذاتية الشيء تبقى كما هي فلا النقود يفنى معدنها أو ورقها ولا البضاعة المعروضة تهلك ببيعها، وانما تذهب من التاجر إلى غيره كإنفاق النقود.
أما إذا كان الاستعمال الأول لا يؤدي لهلاك مادة الشيء ولا إنفاقه، فإن هذا الشيء يعتبر غير قابل للاستهلاك، كالكتب والملابس والأثاث، فالكتب يمكن استعمالها مرات عديدة في الإطلاع، والملابس يمكن ارتداؤها مرات كثيرة، والأثاث يمكن استخدامه مددا طويلة.
وهكذا، فتكرار الاستعمال بالنسبة لهذه الأشياء ممكن، ولذلك تسمى غير قابلة للاستهلاك؛ وصحيح أن قيمتها قد تقل، وتستهلك بمضي الزمن وتكرار الاستعمال مرات كثيرة، لكن تبقى هناك حقيقة مؤكدة، وهي أنها لا تهلك بمجرد الاستعمال أو باستعمالها المرة الأولى، هذا ويلاحظ هنا أن الأصل في قابلية الشئ للاستهلاك أو عدم قابليته هي طبيعة الشئ نفسه، وأثر الاستعمال الأول عليه، لكن إرادة الأشخاص ذوي الشأن قد تتدخل في حالات معينة، فتغير من وصفه، فتجعله غير قابل للاستهلاك رغم أنه أصلا بحسب طبيعته وما أعد له قابل للاستهلاك، فمثلا الخضر والفاكهة أصلا أشياء غير قابلة للاستهلاك، إلا أنها إذا استعملت لوضعها في معرض فقط، فإنها تعتبر غير قابلة للاستهلاك، فتغيير استعمالها من قبل ذوي الشأن هو الذي غير وصفها.
أهمية تقسيم الأشياء إلى قابلة للاستهلاك وغير قابلة للاستهلاك
تظهر أهمية هذا التقسيم في ناحيتين:
- أ. هناك عقود تولد حقوقا شخصية لا ترد إلا على أشياء غير قابلة للاستهلاك، وهذه هي العقود التي تعطي الحق في الانتفاع بشئ مملوك للغير مدة معينة ثم يرد هذا الشئ بعد ذلك لمالكه، ومثالها الإيجار والعارية (الإستعارة)، فالمستأجر يحق له الانتفاع بالعين المؤجرة ثم ردها للمؤجر في نهاية مدة الإيجار، وكذلك في العارية حيث يحق للمستعير أن ينتفع بالشيء المعار بدون مقابل ثم يرده بعد ذلك؛ وفي هذه العقود لا تتصور أن يكون الشئ المؤجر أو المعار قابلا للاستهلاك وإلا لهلك بمجرد استعمال المستأجر أو المستعير له ولاستحال رده.
- ب. كذلك بالنسبة لبعض الحقوق العينية، فانها لا يمكن أن ترد إلا على الأشياء غير القابلة للاستهلاك، وهي الحقوق العينية المقررة لشخص على مال مملوك للغير، كحق الانتفاع وحق الاستعمال فلا تتصور أن ترد هذه الحقوق على أشياء قابلة للاستهلاك، وإلا كان معنى استعمال الغير لها هلاكها وفقدان المالك لها.
ثالثاً:- الأشياء العقارية والأشياء المنقولة
تقسيم الأشياء إلى عقارية ومنقولة يعتبر أقدم التقسيمات وأهمها، لأنه تترتب عليه نتائج بالغة الأهمية، وقد تعرضت المادة ٨٢ مدني لهذا التقسيم بقولها: ” ١- كل شئ مستقر بحيازه ثابت فيه لا يمكن نقله منه دون تلف فهو عقار، وكل ما عدا ذلك من شئ فهو منقول. 2- ومع ذلك يعتبر عقارا بالتخصيص المنقول الذي يضعه صاحبه في عقار يملكه رصدا على خدمته أو استغلاله”، وهذا النص يعرف العقار ويقضي بأن كل شئ لا يصدق عليه هذا التعريف يعتبر منقولا؛ وسنتولى بيان المقصود بالعقار ثم نوضح معنى المنقول.
أولاً : العقار
طبقا لنص المادة سالفة الذكر فان العقار هو الشيء المستقر بحيزه الثابت فيه، بحيث لا يمكن نقله منه بدون تلف، وهذا ما يطلق عليه العقار بطبيعته، نظرا لأن وصفه بهذا الوصف يتفق مع حقيقته، لكن النص السالف أضاف نوعا ثانيا من العقارات أسماه العقار بالتخصيص، وهو شئ في الأصل وحسب حقيقته يعتبر منقولا، لكن تخصيصه لخدمة عقار هو الذي يبرر إطلاق وصف العقار عليه مجازا.
ثانيا : المنقول
المنقول هو الشئ غير الثابت بحيزه، والذي يمكن نقله من مكانه دون أن يتلفـ والشئ الذي يصدق عليه هذا التعريف يسمى منقولا بطبيعته، وإلى جانب المنقول بطبيعه توجد أشياء تسمى منقولات بحسب المآل، لأنها في حقيقتها عقارات، لكن نظرا لأنها ستصير منقولات في وقت قريب، فاننا نسميها بحسب ما ستؤول إليه.
الأموال العقارية والأموال المنقولة
إلى جانب تقسيم الأشياء إلى عقارات ومنقولات، فإن الأموال نفسها، أي الحقوق المالية، يمكن أن تكون أموالا عقارية أو أموالا منقولة، وقد نصت المادة ٨٣ مدني على أنه: ” 1. يعتبر مالا عقاريا كل حق عيني على عقار… 2. ويعتبر مالا منقولا ما عدا ذلك من الحقوق المالية”.
الأموال العقارية
طبقا للنص السالف الذكر الأموال العقارية هي الحقوق العينية التي ترد على عقار، والدعاوى التي تتعلق بحق عيني على عقار، والحقوق العينية التي ترد على العقار فقط هي حق الارتفاق وحق السكنى وحق الحكر والرهن الرسمي والاختصاص، وهذه تعتبر دائما أموالا عقارية، أما الحقوق العينية الأخرى، وهي الملكية والانتفاع والاستعمال والرهن الحيازي، والامتياز، فإنها قد تقع على عقار، وعندئذ تسمى أموالا عقارية، وقد تقع على منقول، وعندئذ تسمى أموالا منقولة؛ أما الدعاوى العقارية، فهي تلك التي تتعلق بحق عيني على عقار، ومثالها دعوى استحقاق العقار، ودعوى تقرير حق ارتفاق على عقار الغير، ودعوى الرهن الرسمي.
الأموال المنقولة
بعد أن حددت المادة ٨٣ مدني في فقرتها الأولى المقصود بالمال العقاري أضافت: “… ويعتبر مالا منقولا ما عدا ذلك من الحقوق المالية”، وبناء على ذلك، فان الأموال المنقولة تشمل:
- الحقوق العينية التي ترد على منقول، كحق ملكية المنقول، وحقوق الانتفاع، والاستعمال، والرهن الحيازي، والامتياز، إذا كان محلها منقولا.
- الحقوق الشخصية عموما، سواء أكان محلها عملا أو امتناعا عن عمل، حتى لو تعلق العمل —ئ مادي؛ لأن العمل والامتناع عن العمل يعتبران من قبل الأشياء المعنوية التي هي منقول دائما.
- الحقوق المعنوية أو الذهنية عموما، كحق المؤلف، والحق في الاسم التجاري والعلامة التجارية.
بالإضافة لهذه الحقوق التي تعتبر أموالا معنوية فان الدعاوى المتعلقة بمال منقول تعتبر دعاوى منقولة، كدعوى المطالبة بالدين.
أهمية تقسيم الأموال إلى عقارية ومنقولة
تتضح أهمية هذا التقسيم مما يلي:
- من حيث إجراءات التنفيذ، فإن إجراءات الحجز على الأموال المنقولة أيسر من تلك التي تتبع بالنسبة للأموال العقارية.
- التصرفات التي يقصد بها إنشاء أو نقل حق عيني على عقار، يجب أن تشهر بالتسجيل أو القيد؛ أما التصرفات التي تتعلق بالحقوق العينية على المنقول أو الحقوق الشخصية، فلا يجب بالنسبة لها الشهر.
- بالنسبة للاختصاص القضائي، فان الدعاوى العينية العقارية تختص بها المحكمة التي يقع في دائرتها موقع العقار أو أحد أجزائه، أما الدعاوى المنقولة، فان الاختصاص بها يكون للمحكمة التي يقع في دائرتها موطن المدعى عليه.
ولأهمية هذا التقسيم خصصنا له مقالة منفصلة بعنوان العقارات والمنقولات والعقار بالتخصيص والمنقول بطبيعته بالتفصيل
رابعاً:- الأشياء المثلية والأشياء القيمية
الأشياء المثلية هي التي يقوم بعضها مقام بعض عند الوفاء، والتي تقدر عادة بين الناس بالعدد أو المقاس أو الكيل أو الوزن (مادة ٨٥ مدني)، وهذه الأشياء تسمى أيضاً أشياء معينة بالنوع لأنه يكفي في تعيينها أن يذكر نوعها، وعدد الوحدات التي تقدر على أساسها، وذلك كعشرين أردب من القمح أو عشرة أقلام أو خمسة أمتار من القماش أو رطلين من اللبن، وذلك بحسب ما إذا كان الشئ يقدر في التعامل بين الناس بالكيل أو العدد أو المقاس أو الوزن، والملاحظ في الأشياء المثلية أن آحادها لا تتفاوت تفاوتا يعتد به.
أما الأشياء القيمية فهي الأشياء التي لا يقوم بعضها مقام بعض في الوفاء، ومثلها سيارة معينة أو منزل معين، وهذه الأشياء تسمي أيضا أشياء معينة بالذات، نظرا لأن تحديدها ينصب على ذاتيتها وليس على نوعها فقط، فالسيارة المعينة بالذات تعين بنوعها وسنة صنعها ورقم محركها والرقم الخاص بها في إدارة المرور، بحيث لا يمكن القول بأن سيارة أخرى تحل محلها في الوفاء أو أنه ليس هناك تفاوت بينها وبين السيارات الأخرى.
ولكن يلاحظ هنا أن إرادة ذوي الشأن قد تلعب دورا في وصف الشيء بأنه مثلي أو قيمي، فالشيء الذي يعتبر في الأصل مثليا كالحبوب أو النقود قد يصير بإرادة ذوي الشأن قيميا، فمثلا إذا اتفق تاجر مع مزارع على شراء خمسين أردباً من القمح يكون القمح في هذه الحالة مثليا وهذا هو الأصل، أما إذا اتفق الاثنان على أن يشتري التاجر كمية القمح الموجودة في مخزن المزارع كلها أصبح القمح قيميا، أي معينا بالذات، وكذلك إذا كانت الأرض في الأصل شيئا قيميا، أي معينا بالذات، فقد تنقلب إلى شيء مثلى معين بالنوع فقط، كما إذا اشترت شركة عقارية مساحة كبيرة من الأرض وقامت بتقسيمها إلى أقسام متساوية وباعتها بالقطعة، فان هذه القطع المتعددة تعتبر أشياء مثلية.
أهمية تقسيم الأشياء المثلية والأشياء القيمية
تظهر أهمية هذا التقسيم في الحالات الآتية:
- من حيث انتقال الملكية: إذا كان الشيء مثليا، أي معينا بالنوع فقط، كخمسين مترا من القماش، فان ملكيته لا تنتقل إلا بالإفراز، أي بأن يقوم التاجر البائع مثال بتجنيب هذا المقدار من القماش وفصله عن سائر ما عنده من قماش، أما إذا كان الشيء قيميا فإن الملكية تنتقل بمجرد العقد، كما إذا وجدت مع زميل حقيبة فأعجبتك وطلبت منه أن يبيعها لك فوافق، فهنا ملكيتها تنتقل إليك بمجرد العقد.
- من حيث استحالة التنفيذ: إذا استحال على الشخص الملتزم بنقل الملكية تنفيذ التزامه هذا نتيجة سبب أجنبي لا يد له فيه، وكان الشيء المطلوب نقل ملكيته مثليا، فان ذمة الملتزم لا تبرأ ويلتزم بتقديم شيئا آخر غير الذي استحال عليه نقل ملكيته، أما إذا كان الشيء قيميا فان استحالة التنفيذ تؤدي لبراءة ذمة الملتزم بنقل الملكية، ومقابل ذلك تبرأ ذمة الشخص الآخر من دفع ثمن الشيء القيمي الذي هلك.
- من حيث الوفاء: إذا كان محل الالتزام شيئا مثليا فإن المدين يكون قد وفى بالتزامه إذا أدى إلى الدائن من نوع الشيء المتفق عليه ومقداره كعشرة أرادب من القمح مثال، أما إذا كان محل الالتزام شيئا قيميا، فان الوفاء لا يكون إلا بذات الشيء المتفق عليه، ولا يجبر الدائن على قبول شيء غيره، كالتزام بتسليم سيارة معينة مثال.
خامساً:- الأشياء العامة والأشياء الخاصة
طبعا لنص المادة ٨٧ مدني “تعتبر أموالا عامة العقارات والمنقولات التي للدولة أو للأشخاص الاعتبارية العامة، والتي تكون مخصصة لمنفعة عامة بالفعل أو بمقتضى قانون أو مرسوم أو قرار من الوزير المختص”؛ وبناء على ذلك، فان الأشياء العامة هي الأشياء التي تملكها الدولة، والتي تكون مخصصة لمنفعة عامة، فيشترط إذن شرطان لاعتبار الشيء شيئا عاما:-
- الشرط الأول: أن يكون الشيء مملوكا للدولة أو أحد الأشخاص الاعتبارية العامة، كالمحافظات والمدن والقرى والجامعات والمؤسسات العامة، ويستوي أن يكون هذا الشيء عقارا، كالشوارع والجسور والكباري والسكك الحديدية أو المستشفيات العامة أو المدارس الحكومية، أو يكون منقولا، كالأثاث والأدوات الموجودة بدواوين الحكومة أو مستشفياتها أو مدارسها أو القطع الأثرية الموجودة بالمتاحف.
- الشرط الثاني: أن تكون هذه الأشياء مخصصة لمنفعة عامة، والتخصيص للمنفعة العامة إما أن يكون بالفعل، أي يتاح الانتفاع بهذه الأشياء للجميع دون أن ينص على ذلك قانون أو مرسوم أو قرار أو يصدر بهذا التخصيص قرار أو قانون.
ومتى توافر هذان الشرطان اعتبر الشيء عاما، أما إذا تخلف أحدهما اعتبر الشيء خاصا؛ ولهذا فإن الشيء الخاص هو الذي يملكه الأفراد أو يستطيعون تملكه وهذا يشمل بالإضافة إلى ما يملكه الأفراد الأشياء التي تملكها الدولة أو أحد فروعها ولكنها غير مخصصة للمنفعة العامة، كالأراضي الزراعية التي تملكها الدولة وتقيم عليها مزارع خاصة بها وتسمى اصطلاحا بالدومين الخاص.
أهمية تقسيم الأشياء العامة والأشياء الخاصة
تظهر أهمية هذا التقسيم مما يلي:
- الأشياء العامة لا يجوز التصرف فيها وإلا كان التصرف باطلا بطلانا مطلعاَ، وهذا على خلاف الأشياء الخاصة التي يجوز التصرف فيها بجميع أنواع التصرفات في حدود النظام العام والآداب؛ إلا أنه يلاحظ أن حظر التصرف في الأشياء العامة كان لعلة معينة، وهي أن التصرف في هذه الأشياء يتعارض مع تخصيصها للمنفعة العامة، وبناء على ذلك فإنه إذا كان التصرف بشأن هذه الأموال لا يعطل الانتفاع العام بها فإنه يكون صحيحا، وعلى ذلك فإنه من الجائز أن ترخص الدولة للأفراد بالصيد في الأنهار والبحيرات العامة، كما أن للمحافظات أن تؤجر جزءا من مبانيها، كتأجير المقاصف أو تأجير جزء من الطريق العام، مادام ذلك لا يعطل المرور فيه.
- لا يجوز الحجز على الأشياء العامة، بينما ذلك جائز بالنسبة للأشياء الخاصة المملوكة للأفراد.
- الأشياء العامة لا يمكن تملكها بالتقادم، بينما ذلك ممكن بالنسبة للأشياء الخاصة المملوكة للأفراد.
فى النهاية آخر نقطة انت من ستضيفها فى التعليقات، شارك غيرك ولا تقرأ وترحل.