في هذه المقالة وضحنا في البداية تعريف القانون، وتعريف الحق، ثم وضحنا الارتباط بين استعمال الحق وحماية الحق وإثبات الحق، ثم وضحنا المقصود باستعمال الحق والمقصود بالتعسف في استعمال الحق، ثم ناقشنا بالتفصيل معايير التعسف في استعمال الحق، ثم ختمنا المقالة بتوضيح المقصود بحماية الحق.
تعريف القانون
درج الفقهاء على تعريف القانون بأنه: “مجموعة القواعد العامة المجردة التي تنظم سلوك الأفراد في المجتمع، وتقترن بجزاء مادي يكفل احترامها”؛ والقانون وفقا لهذا التعريف هو القانون بمعناه العام، وهذا المعنى هو المستفاد من لفظ القانون عند إطلاقه.
غير أن اصطلاح القانون قد لا ينصرف إلى هذا المعنى العام، فقد يقصد به مجموعة القواعد القانونية التي تضعها السلطة التشريعية لتنظيم مسألة معينة، فيقال مثلاً قانون المحاماة أو قانون تنظيم الجامعات؛ وفي هذه الحالة ينصرف اصطلاح القانون إلى معنى أضيق من المعنى السابق، حيث يقصد به التشريع فقط، وللعلم التشريع ليس هو القانون بمعناه الواسع ولكنه أحد مصادر القانون.
مقالة ذات صلة: القانون: تعريفه، خصائصه، أهميته، أقسامه، مصادره، أقسامه
تعريف الحق
الحق هو استئثار شخص بميزة معينة استئثارًا يحميه القانون؛ فالحق استئثار، أي أن الميزة تنسب لصاحب الحق، وتثبت له دون غيره؛ والميزة التي يستأثر بها صاحب الحق هي عبارة عن سلطات معينة يمارسها بقصد إشباع مصلحة معينة، فالميزة هنا تتضمن وسيلة وغاية، ولا يقتصر معناها على السلطة وحدها أو المصلحة بمفردها، فمالك الأرض يستأثر بميزة معينة هي سلطاته في استعمال الشيء واستغلاله والتصرف فيه بغرض تحقيق مصلحة معينة له من الاستعمال أو الاستغلال أو التصرف.
والميزة، سواء باعتبارها وسيلة أو غاية، يجب أن تكون مشروعة، وإن كنا لم نورد ذلك في التعريف، فإن ذلك مفهوم ضمنا، وبحكم الضرورة؛ لأن صاحب الحق إذا استخدم سلطاته لتحقيق مصلحة غير مشروعة فإن القانون لن يحمي له استئثاره بميزته، لأننا نكون قد خرجنا عن نطاق الحق. والقانون يحمي استئثار الشخص بالميزة، وهو إذ يحمي هذا الاستئثار، فإن ذلك يفترض بالضرورة أنه يقره لأنه لا يتصور أن يحمي القانون ميزة معينة لشخص وهو لا يقرها.
والنتيجة الطبيعية للاستئثار بالميزة هي وجوب احترام الغير للحق، سواء في صورة واجب سلبي عام يقع على عاتق الكافة، باحترام الحق أو في صورة واجب خاص يقع على عاتق المدين بالوفاء بدينه لصاحب الحق الشخصي؛ والتزام الغير باحترام الحق مصدره القانون الذي يحمي الاستئثار بالميزة، فلم يكن من المتصور أن يقر القانون استئثار شخص بميزة ثم يتركه دون حماية ضد اعتداء الغير.
مقالة ذات صلة: الحق: تعريفه، أنواعه، أركانه، مصادره، أشخاصه، محله
الارتباط بين استعمال الحق وحماية الحق وإثبات الحق
الحق يعطي صاحبه سلطات معينة، وفي الوضع العادي يمارس الشخص هذه السلطات دون صعوبة، فالمالك يستعمل الشيء الذي يملكه ويستغله ويتصرف فيه، وبمقتضى عنصر الاقتضاء (الاقتضاء هو احترام الجميع لاستئثار صاحب الحق بالقيمة محل الحق بدفع كل اعتداء عليه) يلتزم الناس جميعا باحترام ممارسة الشخص للسلطات التي يمنحها له حقه، ويلتزم المدين في الحق الشخصي بصفة خاصة أن يوفي بما التزم به حتى يتيح لصاحب الحق الشخصي الاستفادة منه.
ولكن في المجتمع البشري الذي تنضارع فيه المصالح وتؤدي فيه نوازع الشر عند البشر إلى الإغارة على حقوق الآخرين، كان لابد أن يوفر القانون الحماية للحقوق لكي يستطيع كل ذي حق أن يمارسه على الوجه الذي يراه ويحقق المصالح ذات القيمة الاجتماعية، ومن هنا كانت حماية الحق ضرورية لضمان استعماله على وجه الاستقرار والدوام، أي أن هناك علاقة وثيقة بين استعمال الحق وحمايته.
ومن ناحية أخرى، فإنه لما كانت السلطة العامة هي التي تتكفل في الوقت الحاضر بتوفير الحماية للحقوق نظرا لأنه لم يعد جائزا للفرد أن يقتضي حقه بنفسه فان هذه السلطة لكي تسبغ الحماية القانونية على حق من الحقوق لابد أن يقيم الشخص الدليل على أن له حقا معينا قد اعتدى عليه، وإلا كان في وسع أي إنسان أن يدعي بحق ويطلب حمايته، والحق الذي لا دليل عليه هو والعدم سواء، أو كما يقولون الإثبات فدية الحقوق، ومن هنا كان الارتباط وثيقا بين حماية الحق وإثباته.
يتضح لنا إذن أن هناك ارتباط بين مسائل ثلاثة هي استعمال الحق وحمايته وإثباته، ولقد تناولنا مسألة إثبات الحق فى مقالة منفصلة بعنوان إثبات الحق وأهميته ومحل الإثبات وطرق إثبات الحق، أما فى مقالة اليوم سنناقش إستعمال الحق وحماية الحق.
استعمال الحق
كل حق يخول صاحبه سلطات معينة هي التي تكون مضمون هذا الحق، والقانون وهو ينظم الحقوق المختلفة يحدد ما يمنحه كل حق لصاحبه من سلطات وميزات، والشخص إذا استعمل حقه بممارسة تلك السلطات والانتفاع بهذه الميزات التي يقرها القانون يكون قد سلك سلوكا في حدود حقه، أما إذا تجاوز هذه السلطات فإنه يكون قد تجاوز حدود حقه، فالمالك مثلاُ يمنحه القانون بمقتضى حق ملكيته سلطات استعمال واستغلال والتصرف في ملكه، وبالتالي فالذي يملك قطعة أرض مثلاً من حقه البناء عليها، فإذا بني المالك في حدود ملكه كان في حدود حقه، ولكن إذا هو بنى على جزء من أرض الجار كان متجاوزاً لحدود حقه.
وصاحب حق الانتفاع يخوله القانون سلطات استعمال الشيء واستغلاله دون التصرف فيه، فإذا هو باع الشيء محل حق الانتفاع يكون قد تجاوز حدود حقه واعتدى على حق مالك الرقبة، ومن له حق استعمال شيء معين له سلطات استعمال هذا الشيء بنفسه وأسرته ولكن ليس له أن يؤجره للغير فان فعل ذلك كان متجاوزا لحدود حقه؛ وفي الأمثلة السابقة يعتبر صاحب الحق متجاوزا حدود حقه ومعتديا على حق الغير ولا شك في مسئوليته عن هذا الاعتداء، فيستطيع المعتدى عليه أن يطلب من القضاء رد هذا الاعتداء والتعويض عن الضرر الذي أصابه بسبب هذا الاعتداء.
ولكن السؤال الذي يتبادر إلى الذهن هنا هو هل إذا بقى الشخص في حدود حقه لا يُسأل عن استعماله لهذا الحق أيا كان نوع الاستعمال ومداه حتى لو أصاب الغير ضرر من استعمال الحق؟
التعسف في استعمال الحق
كان الفقه التقليدي يرى أن الحقوق مطلقة، أي صاحب الحق له استعمال حقه بالطريقة التي يراها دون رقابة من القانون وبالتالي لا يسأل الشخص عن الضرر الذي يتسبب للغير بسبب استعمال الحق مادام الشخص يتصرف في حدود حقه، ولكن تحت تأثير المذهب الاشتراكي وازدياد أهمية المصلحة العامة في نظر القانون لم تعد الحقوق مطلقة، وإنما أصبحت مقيدة بضرورة عدم التعسف في استعمالها، أي أصبح من الجائز مساءلة الشخص رغم أنه يستعمل حقه في الحدود المرسومة له، وذلك متى انحرف في استعماله عن سلوك الشخص المعتاد، وهذا ما يسمى بنظرية التعسف في استعمال الحق.
والتعسف في استعمال الحق بهذا المعنى يختلف عن تجاوز حدود الحق، ولكي نوضح الفرق بينهما نضرب مثالا: إذا كان شخص يملك قطعة أرض، وبنى عليها منزلا وتجاوز وهو يبني حدود أرضه وبنى على جزء من أرض جاره كان ذلك منه تجاوزا لحدود حقه، كما ذكرنا سابقا، ولكن لو بني مالك الأرض جدارا على حدود أرضه دون تجاوزها إلى أرض الجار وكان غرضه من بناء هذا الحائط هو حجب النور والهواء عن ملك جاره يكون متعسفا في استعمال حقه، وليس متجاوزا، لأنه رغم بقائه في حدود حقه إلا أنه لم يتصرف وهو بصدد هذا الاستعمال تصرف الرجل المعتاد لأن الشخص المعتاد لا يبني حائطا بفرض حجب النور والهواء عن جاره.
معايير التعسف في استعمال الحق
تبنى المشرع المصري نظرية التعسف في استعمال الحق ونص عليها في الباب التمهيدي للقانون المدني، لأنها في الحقيقة نظرية لها من العموم ما يجعلها تسود ليس فقط القانون المدني بفروعه المختلفة، بل القانون كله من قانون عام وقانون خاص؛ لأنها تعتبر قيدا على الحق أيا كان القانون الذي ينظمه، وقد نصت المادة الخامسة من القانون المدني على أنه: “يكون استعمال الحق غير مشروع في الأحوال الآتية:
- أ. إذا لم يقصد به سوى الإضرار بالغير.
- ب. إذا كانت المصالح التي يرمي إلى تحقيقها قليلة الأهمية بحيث لا تتناسب البتة مع ما يصيب الغير من ضرر بسببها.
- ج. إذا كانت المصالح التي يرمي إلى تحقيقها غير مشروعة”.
من هذا النص يتبين أن القانون المصري يعتبر التعسف في استعمال الحق أمرا غير مشروع، ولكنه حدد الحالات التي يكون فيها الإنسان متعسفا في استعمال حقه، فهذه تعتبر معايير التعسف في استعمال الحق ونتولى شرحها فيما يلي:
أولاً: استعمال الحق بقصد الإضرار بالغير
وجه عدم مشروعية استعمال الحق في هذه الحالة واضح، فالقانون قرر الحقوق للأشخاص بفرض تحقيق مصلحة معينة، فمن البديهي أن يكون استعمالها بغرض الإضرار أمرا غير مشروع، ومتى كان لدى الشخص، وهو يستعمل حقه، نية الإضرار بالغير، فانه يكون متعسفا في استعمال حقه حتى ولو كان يرمي في نفس الوقت لتحقيق منفعة خاصة له طالما أن القصد الغالب والذي دفعه أساسا لهذا الاستعمال هو الإضرار بالغير.
فمعيار التعسف هنا معيار شخصي يقتضي الكشف عن نية صاحب الحق وهو يستعمل حقه، ولما كانت النية أمرا نفسيا داخليا فانه يستدل عليها بظواهر خارجية، ومن القرائن التي تساعد على تبين هذه النية هو انعدام مصلحة صاحب الحق عند استعمال حقه أو تفاهة هذه المصلحة إلى حد كبير، ومن أمثلة التعسف في استعمال الحق، طبعا لهذه الحالة، الجار الذي يغرس أشجارا أو يبني حائطا على حدود ملكه وليس له من غرض سوى حجب النور والهواء عن جاره أو رب العمل الذي يفصل عاملا لمجرد الانتقام منه أو من يتقدم بشكوى ضد موظف عام لمجرد تشويه سمعته.
ثانياً: استعمال الحق لتحقيق مصلحة لا تتناسب إطلاقا مع ما يعود على الغير من ضرر من هذا الاستعمال
في هذا القرض يستعمل صاحب الحق حقه بقصد تحقيق مصلحة له، ولكن هذه المصلحة إذا قورنت بالضرر الذي يتسبب للغير من هذا الاستعمال اتضح أنها ضئيلة جدا بالنسبة لهذا الضرر، ومعنى هذا أن معيار التعسف في هذه الحالة معيار موضوعي، أي لا يعتمد على البحث في نية صاحب الحق، وإنما يقوم على أساس المقارنة بين المصلحة التي تتحقق لصاحب الحق والضرر الذي يصيب الغير من استعمال الحق.
وقد أورد القانون المدني تطبيقين لهذه الحالة: الأول، نصت عليه المادة ٢/٧١٨ بقولها “ليس لمالك الحائط أن يهدمه مختارا دون عذر قوي إن كان هذا يضر الجار الذي يستتر ملكه بالحائط”، ومقتضى هذا النص أن الجار الذي يهدم حائطا يملكه، أي يتصرف في ملكه ولا يكون لديه عذر قوي، أي تكون مصلحته من الهدم ضئيلة يكون متعسفا في استعمال حقه مادام أن هذا الحائط يستر ملك جاره، وبالتالي فان الهدم سيضر بهذا الجار الأخير ضررا كبيرا لا يتناسب مع المصلحة الضئيلة التي تعود على صاحب الجدار من هدمه؛ أما التطبيق الثاني فقد نصت عليه المادة ١٠٢٩ بقولها “لمالك العقار المرتفق به أن تتحرر من الارتفاق كله أو بعضه إذا فقد الارتفاق كل منفعة للعقار المرتفق أو لو لم تبق له غير فائدة محدودة لا تتناسب البتة مع الأعباء الواقعة على العقار المرتفق به.
ثالثاً: استعمال الحق لتحقيق مصلحة غير مشروعة
إذا كان القانون يمنح الأشخاص حقوقا فانه يبغى من وراء ذلك تمكينهم من إشباع المصالح المشروعة، أي التي يقرها، فإذا سلك صاحب الحق باستعمال حقه مسلكا يريد به تحقيق مصلحة غير مشروعة فإن تصرفه يندرج دون شك تحت صور التعسف في استعمال الحق، ويحدث هذا عادة في الأحوال التي يريد فيها الأفراد تحقيق هدف معين لإشباع رغبة شريرة، ولكنهم لا يستطيعون الإقدام عليها مباشرة، بل يتخذون من استعمال حقوقهم سبيلاً ملتوياً للوصول إليها.
ومثال على ما سبق رب العمل الذي يفصل العامل بسبب انضمامه لنقابة العمال، فرب العمل لا يستطيع أن يمنعه صراحة وبطريقة مباشرة من الانضمام للنقابة، ولكن يتم ذلك بطريق غير مباشر بفصله حتى يكون عبرة لغيره من العمال فلا ينضمون للنقابة، وكذلك الجهة الإدارية التي تفصل موظفا لأنه ينتقدها ويكشف انحرافاتها، فهي لا تستطيع منعه مباشرة وبطريقة سافرة من هذا النقد ولكنها تتوصل إلى ذلك عن طريق فصله.
حماية الحق
ذكرنا من قبل أن حماية الحق ضرورية لكي يستطيع الشخص أن يستعمل حقه ويستفيد منه بصورة مستقرة، وفي العصور القديمة كانت القوة تنشئ الحق وتحميه أي كان الشخص نفسه هو الذي يتولى حماية حقه بوسائله الخاصة، ولكن في العصر الحديث تكفلت الدولة بحماية حقه عن طريق طلب ذلك الحق بوسيلة تسمى الدعوى، فاذا كنت تملك منزلاً مثلا ونازعك آخر في ملكيتك، فإنك تستطيع رفع دعوى ضده أمام القضاء الذي يحكم لك بملكية المنزل بعد أن تثبت حقك على النحو الذي رأيناه في إثبات الحق.
وحماية الحقوق قد تكون بالطريق المدني، وقد تكون بالطريق الجنائي، فالطريق المدني يسلكه من اعتدى على حق خاص له كما إذا كان لك حق شخصي في مواجهة شخص آخر كدين بمبلغ مائة جنيه ولم يدفع لك المدين هذا المبلغ في الميعاد المتفق عليه، فعندئذ تستطيع أن تطلب من القضاء المدني الحكم بإلزام هذا الشخص بدفع الدين، وبحصولك على هذا الحكم في مواجهته تتمكن من توقيع الحجز على أمواله وبيعها بالمزاد العلني وتستوفي من ثمنها المبلغ المذكور.
أما الطريق الجنائي فهو يستخدم إذا كان الأعتداء على الحق يمثل في نفس الوقت اعتداء على المجتمع، كالسرقة والضرب والجرح، ففي هذه الحالات يعتبر الاعتداء واقعا على حق ملكية لشخص معين أو على حقه في سلامة جسمه، وهو في نفس الوقت يعد اعتداء على المجتمع ككل، لأنه يخل بالأمن والنظام فيه، وهنا يتم رد هذا الاعتداء بالوسيلتين: المدنية والجنائية؛ فالنيابة العامة تتولى مباشرة الدعوى الجنائية ضد المتهم بالسرقة أو الضرب بفرض توقيع عقوبة جنائية عليه، لأنه اعتدى على أمن المجتمع، وفي نفس الوقت يستطيع المجني عليه أن يطالب بتطبيق جزاء مدني، كالحكم برد الشيء المسروق أو التعويض عن الضرر الناشئ عن الضرب أو الجرح، ويستطيع المدعى بالحق المدني أن يرفع دعواه أمام القضاء المدني أو أمام القضاء الجنائي بالتبعية للدعوى الجنائية.
فى النهاية آخر نقطة انت من ستضيفها فى التعليقات، شارك غيرك ولا تقرأ وترحل.